العلاج بالفلسفة.. عندما يكون العقل والنظريات سبباً في التعافي وتطور المجتمعات

العلاج بالفلسفة.. عندما يكون العقل والنظريات سبباً في التعافي وتطور المجتمعات
أستاذ دكتور عبد الراضي رضوان

هل هناك ما يمكن أن تقدمه الفلسفة للإنسان الذي باتت تحاصره المشكلات من كل جانب، ويعاني الملل والكآبة رغم كل ما يمتلكه من تقنيات تملأ عليه وقته؟ تساؤلات تصعب الإجابة عليها خاصة مع اجتياح "كوفيد-19" العالم، وما تبعه من آثار الحرب الروسية الأوكرانية على اقتصاديات العالم الذي باتت معه الدول الكبرى في مهب الريح، فضلًا عن مجتمعات الدول النامية التي تعاني أضعافًا.

ما الذي ستقدمه الفلسفة من حلول تمس حياة المواطن العربي يستطيع إنفاق ماله عليها بروح راضية، بدلًا من إحضار الخبز إلى طاولة طعام أسرته؟ وما طبيعة هذا العلاج؟ ومن القائمون عليه؟ وهل له مدارس وعيادات ومستشارون؟ وما أسسه؟

يجيب عميد كلية دار العلوم جامعة القاهرة، ورئيس قسم العقيدة والفلسفة، أستاذ دكتور عبدالراضي رضوان، إذ يقول: "إن ما يظنه الناس أن الفلسفة لون من الترف العقلي والجدليات عديم الفائدة، ولكن هي قوة فاعلة في المجتمع تقدم له التصور الأمثل لمشكلاته وقضاياه، فضلًا عن المنهج الذي يسير عليه علاج هذه المشكلات، وكنا غافلين عن هذا الدور المهم للفلسفة، وهي التي تصدت لعلاج المشكلات المتعلقة بالوعي الإنساني أمام 3 من أهم القضايا التي واجهت الإنسان وهي “الله، العالم، الإنسان”.

وفيما يتعلق بجزء الإنسان، فالجزء المتعلق بالإنسان وهمومه ومشكلاته بدأ مع محاولة سقراط، الذي قيل عنه أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، والإنسان أمامه مشكلتان كبيرتان، الأولى أخلاقية يأتي منها 90% من مشكلات الناس المعاصرة، فقد نشكو من العمل والمسكن والمواصلات، ولكن هذه المشكلات لا تزيد على 10%، و90% منها هي من الآخرين، سواء كان الآخرون من الأقارب أو غيرهم.

وأضاف “رضوان” في تصريحات خاصة لـ"جسور بوست"، ومن المشكلات التي تتصدى لعلاجها الفلسفة "الكذب، والتحرش، والحقد، والكراهية، وعدم إتقان العمل، وعدم تحمل المسؤولية، وإيذاء الآخرين"، فالمشكلات الأخلاقية جزء أصيل من العمل الفلسفي، والعلاج الفلسفي جزء من مهام الفلسفة وهي مساعدة الإنسان على حل قضاياه، والجزء التخصصي الآن الذي أصبحت له مناهج دراسية وعيادات استشارية موجود في أوروبا منذ القرن الماضي، وكثير من البلدان الغربية وضعت وظيفة مستشار فلسفي لحل مشكلات المؤسسات وحفز الهمم وجهود الموظفين نحو السعي للارتقاء بالمؤسسة وأفرادها.

وعمن يخول له دور المستشار الفلسفي، أضاف: يحتاج إلى إعداد معين، فأولًا يحتاج إلى خبرة طويلة في مجال الفلسفة كي يكون ملمًا بالمذاهب الفلسفية والتيارات العقلية ومناهج التفكير والمشكلات التي واجهت الفلاسفة في ما يخص قضية الإنسانية والوجود، فأكثر مشكلات الناس تأتي من هذا الجانب كالأوهام والتشكك، كذلك عليه أن يكون دارسًا للنفس الإنسانية وكل ما يتعلق بها، فعلم النفس ضرورة هنا كذلك علم الأخلاق، وكذلك أن تكون لديه قدرة عالية على الحوار وقدرة كبيرة على الولوج في أنفسهم، وأن يكون عارفًا بالحالة العامة لبلاده سياسيًا ودينيًا.

الفرق بين الطبيب النفسي والمستشار الفلسفي

وفي إطار تفرقته بين المستشار الفلسفي وبين الطبيب النفسي قال، إن المستشار النفسي لا يصرف أدوية للحالة، وإنما الأمر أشبه ما يكون بعمل عقلي اجتماعي، قائم على حوار عقلي مع شخص متمكن فكريًا وفلسفيًا، وعلى معرفة بعلم النفس وقضاياها الإنسانية، ويستطيع ترجمة ما لدى الحالة ويحولها إلى قضية، والوقوف على البواعث ودوافع المشكلة وطرق العلاج لها، فالعلاج هنا دون التطرق لأدوية.

وأضاف، لتشابك المستشار الفلسفي مع مشكلات تمس المواطنين وحياتهم، لا بد من وضع برامج دراسية متخصصة في المدارس والجامعات وتعيين مستشار فلسفي على غرار المستشار النفسي أو الاجتماعي، أيضًا ضرورة التعامل مع الجماهير لعلاج القضايا الأولية المنتشرة بين الناس، على أن يهتم الإعلام بنشر هذا الطرح.

إذا حدث هذا، فإن 50% من مشكلات المؤسسات ستنتهي، لأن كثيرا من مشكلاتها يكون بين الموظفين وبعضهم، وعلى سبيل المثال، في الفلسفة الإسلامية لدينا برنامج متكامل للإصلاح الأخلاقي، يتضمن نظرية في الأخلاق وآلية ووسائل متخصصة تربوية تحول النظرية الأخلاقية إلى سلوك عملي، وهو موضوع بحثي لي تحت مسمى “دور نظرية الدوافع والموانع التربوية في التنمية الأخلاقية في الاستشارة الفلسفية”، ولكي أصبح إنسانًا أخلاقيًا لا بد من الارتقاء بقوة الخير وأضغط قوة الشر والرذيلة وأجعلها عند أدنى مستوياتها، فيتحول الإنسان إلى مفتاح للخير مغلاق للشر، هذا العمل إذا استطعنا تنفيذه لقضينا على كل مسببات هدم الأوطان.

فإذا تم أخذ القدوة كمثال، لرأينا قوة تأثيرها، فكيف يتأثر أطفال أوروبا ببطولات لاعب الكرة الدولي المصري محمد صلاح، ومن خلال ذلك، الذي بدوره استطاع تغيير بعض المفاهيم لديهم خاصة فيما يتعلق بالسلوك الراقي للمسلم وتغيير الصورة الذهنية لديهم عن العالم الإسلامي، وكذلك تغيير الناس عن طريق الصحبة، ويمكن أن يصاحب المستشار الفلسفي مصاحبًا للحالة قريبًا منها.

العلاج بالفلسفة في الوطن العربي

وعن وجود هذه الثقافة في الوطن العربي، قال أستاذ الفلسفة، إن الدعوة الأولى للعلاج بالفلسفة كانت من خلال مؤتمر عقدته الجمعية الفلسفية المصرية برئاسة الدكتور مصطفي النشار، المؤتمر الدولي بعنوان الاستشارة الفلسفية والعلاج بالفلسفة، الذي جاء فيه طرح فلسفي جديد يهدف إلى تحسين جودة الحياة من خلال اللجوء إلى الفلسفة كطريق قويم وراشد للسير قدما في الحياة، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة.

وقبل هذا المؤتمر كانت الجهود فردية من خلال ترجمة المختصين لكتب تتناول الاستشارات الفلسفية، لكن لم يكن هناك مثل هذا الحضور العلمي المكثف بهذا الشكل.

وأشار عبدالراضي إلى أن الموضوعات المطروحة دارت حول التعريف بالاستشارة الفلسفية وطرق العلاج بالفلسفة إلى عرض تجارب العيادات الفلسفية حول العالم، خاصة في إيطاليا، وذلك لوجود مشاركين فعليين من أصحاب ومديري العيادات الفلسفية بها، كما قدمت الأوراق عرضًا للاستشارة الفلسفية وتاريخها الطويل، كما قدمت نماذج علاجية فلسفية لمشكلات حياتية معاصرة يعانيها المجتمع وأفراده على أصعدة مختلفة.

واستطرد، شارك عدد من بعض الدول الأجنبية، خاصة إيطاليا، كما شاركت العديد من الدول العربية مثل لبنان والجزائر والسودان وإيران والعراق واليمن والكويت والسعودية، كما شارك قرابة 50 باحثا أجنبيا وعربيا في 11 جلسة على مدار أيام متتالية، وانتهى المؤتمر بمجموعة توصيات منها إدراج الاستشارة الفلسفية ضمن البرامج الدراسية الجامعية، وإنشاء ليسانس الفلسفة في الاستشارة الفلسفية (4 سنوات)، إنشاء دبلوم الفلسفة لمدة عامين بعد الليسانس، ووضع مقرر الاستشارة الفلسفية ضمن المقررات الجامعية تأسيسا لهذه الثقافة العلمية. 

وتابع، كذلك تنظيم دورات متخصصة في الاستشارة الفلسفية يشارك فيها خبراء متخصصون من مختلف أنحاء العالم (إيطاليا- ألمانيا وغيرها)، على أن يكون في كل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية مستشار فلسفي يسهم في وضع البرامج والخطط المستقبلية للمؤسسة، وكذلك يعمل على حل المشكلات المهنية وغير المهنية التي تقابل العاملين بالمؤسسة، ويقوم بالعمل على خلق روح التحفيز والمنافسة على الامتياز بالنجاح وتفوق المؤسسة. 

أيضًا ضرورة أن تهتم المؤسسات العلمية بعقد مؤتمرات وندوات متخصصة نشرًا لثقافة الاستشارة الفلسفية، ووضع ميثاق أخلاقي للاستشارة الفلسفية والعلاج بالفلسفة، من خلال مجموعة من المتخصصين في الاستشارة الفلسفية، ودعوة وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة إلى تخصيص فقرة للمستشار الفلسفي يعالج فيها مشكلات القراء والمستمعين، ما يسهم في حلها وفي تقريب الفكر للناس، والاهتمام بتأسيس الميثاق العلمي والأخلاقي لدورات الاستشارة الفلسفية، المواد القانونية، رخصة العيادة الفلسفية. 

وأكد ضرورة فتح دورات الاستشارة الفلسفية في الكليات العلمية مثل الطب والصيدلة والهندسة، وتدريس الإنسانيات من خلال دورات الاستشارة الفلسفية، نظرا لافتقار خريجي الطب والكليات العملية إلى مهارات التواصل والتعامل مع المرضى فقط بشكل آلي بعيد عن المنهجيات الإنسانية في التفكير، والاستعانة بتجربة حية مثل التجارب الإيطالية، وكيف يتم تنفيذها والاستفادة منها وفقا لما يتلاءم مع ظروفنا الاجتماعية والثقافية.

وأوضح أنه في مصر، يتم تدريب خريجي الفلسفة من خلال أساتذة لهم خبرات في مجال الاستشارة الفلسفية والعلاج بالفلسفة، وبعد هذا التدريب يحصلون على شهادة تؤهلهم للعمل في هذا المجال وهو العيادة الفلسفية، وإعداد فريق عمل تكون مهمته إعداد كل ما يتعلق بالمقابلات واللقاءات الخاصة بالدورات مثل الإعلانات، والنشر على أكبر نطاق داخل المؤسسات والجامعات، ومحاولة الحصول على تمويل من خلال تقديم مشروع يخص مباشرة الاستشارة الفلسفية، بمعنى الحصول على مشروع يجعل ضيوف الاستشارة يحصلون على استشاراتهم مجانا، بل ومن الممكن أن يكونوا مستفيدين بأكثر من طريقة مثل تقديم منح شخصية لهم، والتواصل مع خبراء من جامعات دولية في هذا المجال، وعمل اتفاقيات بين الجمعيات الفلسفية والمهنية من المشتغلين بالاستشارات الفلسفية وبين الجمعية الفلسفية المصرية.

 

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية